العقل مستقيل إلى حد الآن ولكن غير مستحيل وحيد بن بوعزيز

شارك:



العقل مستقيل إلى حد الآن ولكن غير مستحيل!!
حوار مع الباحث وحيد بن بوعزيز

أجرى الحوار: محمد عمر سعيد 

ما هي العلاقة بين الاستقرار واعمال العقل في المناخ الثقافي، هل كل حوار معرفي وانتاج ثقافي يحتاج دائما إلى الاستقرار وماذا عن عملية الحفر في الذات والبحث عن الآليات المتحكمة في اشتغال الثقافة بهدف الارتقاء إلى مستوى السؤال. وكيف هي صورتنا في منظور الآخر.. تلك هي بعض الهموم التي تم التطرق لها في هذا الحوار مع الباحث وحيد بوعزيز.

يقدم عمار بلحسن توصيفا يبدو معبرا عن حال الثقافة وأهلها في الجزائر إذ يراها كالصحراء القاحلة التي لا نبات فيها فما تعليقكم على هذا الوصف؟ 
أفلح كثيرا المرحوم عمار بلحسن في توظيف استعارة الصحراء، حقيقة حال الثقافة وواقعها في بلادنا تنقصه كثيرا عملية التخصيب، ولهذا، لا بد ألا نكذب على ذواتنا وألا نحجب الواقع كثيرا. من جهة أخرى، يبدو أن الأمر لا يمس الجزائر فقط، فالعرب أقلية ثقافية كما يقرر العروي، والعرب يعانون من استقالة العقل من زمن بعيد كما يذهب الجابري، والعرب غرب مشوه كما يقول الخطيبي!. 


لهذا، أعتقد بأن اقتراح البدائل الجذرية في كنف هذه الضبابية يعد ضربا من المستحيل، لا بد من تشجيع عملية الحفر في الذات؛ لمعرفة الآليات المتحكمة في اشتغالات الثقافة. وهنا نلاحظ أمرا مهما جدا، يمس تلك الثنائيات التي أقامها المفكرون ووقعوا تحت سحرها: ثقافة/ أمبريالية، ثقافة/ سلطة، ثقافة/ غرب، ثقافة/عولمة..
لم يحاول هؤلاء المفكرون التركيز على الدور المحوري للمثقف، وحصره في طبقة متميزة، إذ ألاحظ أن العثرة الحاسمة عند المثقف العربي تكمن في اللامثقف، أعرف أن هذا المفهوم لم يتضح بعد ولكن لا بد من تطويره والاشتغال عليه، لأنني كمثقف في بلادي، أجد أن العوام populasse، وهذا منذ القدم، شكلوا صالون أخيلة المثقف...

ألا ترى أن هذه الحالة ترجع إلى كون الإنسان الجزائري ـ كما يعبر عن ذلك عمر مهيبل ـ لم يعرف الاستقرار منذ بداية تشكل المجتمع الجزائري نفسه وبالتالي كان ذلك عاملا على خلق حالة من الاضطراب وغياب التفكير والتأمل وبالتالي الإبداع ؟ 
إن القول بأن الثقافة في الجزائر لا تقوم على الاستقرار، قول غائم ومعمم، لأن الكثيرين من الفلاسفة المعاصرين، دولوز، ديريدا، والروائي إدموند جابز كشفوا تلك العلاقة الغريبة المتواجدة بين المعرفة واللإستقرار.
يقول جيل دولوز في كتابه المهم: ما هي الفلسفة، إن الفلسفة ترحال!!، أعتقد أن المشكلة ليست في الإستقرارية أو اللإستقرارية، بل في حسن توظيف هذه الرمال المتحركة واستغلال هذا النسبي الذي يكتنفنا، لأن الوجود كله عبارة عن أرضية زجاجية.

لقد عرضت في مقال لك رؤية المستشرقين لأفول "الظاهرة الإسلاموية" الحركية وقمت فيها بتسليط الأضواء على الخطاب الإبيستيمولوجي الإسلامي كبديل للفكر الحركي، فما مدى أهمية هذا البديل برأيك؟
طبعا أنت تحيل إلى مقالي بمجلة الاختلاف العدد الأول، فالمقال تابع أراء بعض المستشرقين الجدد، كما يحلو لإدوارد سعيد أن يصفهم، حللوا بداية ظاهرة جديدة: نهاية الإسلاموية وأفولها، ولكن سرعان ما اتضح بطلان الانطلاقة بعد أحداث 11 سبتمبر التي بينت بأن الإسلاموية الراديكالية قد غيرت الاستراتيجية تماما ولم تنته قط.
أرجع أوليفي روا وجيل كيبل وأخرون ضمن ملف مجلة إسبري الفرنسية نهاية الإسلاموية بتغير الأوضاع السوسيولوجية وحيل السلط في التعامل مع المعارضات الراديكالية ووو... ولم نجد من اهتم بأمر مهم جدا يكمن في عودة العقل، فالاهتمام البارز الآن عند الكثير من المؤسسات الإسلامية بالمعرفة والايبيستيمولوجيا يمكن اعتباره أمارة بارزة على لحظات الوعي الذاتي والنقد الذاتي بمسارات الطرح الإسلامي.
لأن جوهر ما يسمى بالحركة الإسلامية ذو طبيعة سياسية، يعد بمثابة ردة فعل على سقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية) ولم يتفطن المفكرون الأوائل في النصف الأول من القرن الماضي بأن السقوط كان مع سقوط غرناطة بل قبل ذلك بكثير أقصد المقولة المشهورة التي تطلق على القرن الرابع غلق باب الاجتهاد، هذا ما نسميه الآن سقوط العقل. إذن بداية إرجاع روح الحضارة الإسلامية تبدأ من العقل، ولكيلا نقع في التشاؤمية الفجة فلنصبر أنفسنا بالقول أن العقل مستقيل إلى حد الآن ولكن غير مستحيل... إن المجهود الذي يقوم به البعض في أمريكا وماليزيا والمغرب ينبئ بالخير ما دام الهاجس الغالب على هذه الحساسيات يكمن في البحث عن لحظة العقل والتفكير والابتعاد عن الخلط والتكفير!.

ولنأخذ نموذجا لهذا الخطاب والذي تبدي اهتماما كبيرا به ألا وهو مشروع المفكر طه عبد الرحمن، ماذا قدم من جديد للساحة الفكرية الإسلامية ؟ وما هو ردك على منتقديه خاصة منهم المفكر أبو يعرب المرزوقي الذي وصف مشروعه الفلسفي بأنه خطر على الفكر العربي الإسلامي ؟ 
يقوم هذا الباحث النادر في الخطاب العربي والإسلامي بعمل جبار فعلا، لماذا، لأنه حاول أن يجد أصالة العقل العربي القائمة على الحوارية وليس على الذاتية أو الموضوعية المتعاليتين. حاول أن يؤسس ويمأسس لتداولية عربية، تستفيد من آخر إنجازات الفكر والفلسفة الغربية ولكن بدون أن يقع في التقليد غير الواعي بالظرفيات المغايرة. 

إن نظرية المجال التداولي تجربة ومغامرة فريدة من نوعها، ولا يهمنا هنا الانتقادات التي وجهت لها من طرف علي حرب أو المرزوقي أو فتحي التريكي فهذا أمر طبيعي، المهم أنها تمثل موقفا جديدا une nouvelle position موقف التأصيل والتجذير بدون عقد. أعتقد بأنها نظرية ستجد صداها في التاريخ عندما تتلاشى الحجب.

ما السبيل إلى ولوج مثل هذا الفكر الإسلامي المستنير وأمثاله إلى جانب الخطابات الأخرى التي تعبر عن أيديولوجيات أكثر منها توجهات فكرية هدفها تطوير المعرفة إلى رحاب الجامعة الجزائرية خاصة وهي تعرف ترهلا وضعفا واضحين ؟ 
إنك تلاحظ أنني لم استعمل إلى حد الآن الخطاب الإسلاموي، بل أتعمد استعمال الخطاب الإسلامي كيلا أقع في فخ الكلمات والأدلجة. أظن أنه لا يوجد بعد خطابات فكرية بأتم معنى الكلمة، فنحن لا نعيش صراعا أيديولوجيا بعد كما كان يظن المرحوم بن نبي، بل نحن مازلنا نسير في مقولة أثبت العرش ثم انقد!. الحالة الجامعية في الجزائر حالة كونغرينا، تعفن داخلي راجع إلى عدة عوامل معقدة ومتشابكة، لم يصل بعد الصراع إلى مستوى الأفكار لأن الجامعة غير واعية بدورها التنويري، فجوهر الأنوار كما يقول كانط فاعلية النقد، الجامعة الآن آلة اجترار للسياسات الخائبة منذ الاستقلال وانعكاس لتلك العقدة التي ركزت عليها أعلاه: البوبيلاس (الشعبوية).
ألاحظ انطلاقا من كوني أستاذا في الجامعة الجزائرية عدمية سائرة في عروقها راجعة إلى نسيان الغاية المثلى للتعليم :المعرفة. فالمعرفة أصبحت مثل العنقاء في بلادنا، للأسف الآن أصبحت الجامعة وكرا للمعدومين اجتماعيا والمعذبين في الأرض...
إن إصلاح الجامعة لا أظنه يرجع إلى مشكلة صراع الأفكار، ليست هذه الحركة أو تلك هي التي ستصلح الجامعة بل أرى الأمر أكبر بكثير، يعود إلى تحديد علاقاتنا بالمعرفة والعلم تحديدا جديا. ففي بلادي للأسف لاعب كرة قدم تافه أي ليس لاعبا ممتازا، ومغني رأي سافه لهما قيمة ثقافية في محافلنا أحسن من باحث...

لقد كانت علاقتنا بالغرب ولا تزال علاقة تبعية فهل الحوار وحده كاف للخروج من التبعية؟ 
أظن أن التفاعل مع الغرب يبدأ من تفكيك هذه الكلمة، ما المقصود بالغرب، هل الغرب واحد أم هو متعدد، إذ لا بد من تشخيص الغرب بصيغة الجمع كي نعرف من هو المتفاعل معنا ومن ستتفاعل معه. إن التفاعل ظاهرة تاريخية طالت كل الحضارات، ولكن تقاس قيمة المناعة الحضارية بطبيعة هذا التفاعل، هل هي تميّع أم تكيّف. اليابان إلى حد الآن استطاع الحفاظ على هويته بإيجاد معادلة توليفية بين تاريخه وحاضره ومستقبله، لكن هذا البعد العربي الإسلامي مازال يتخبط كالتلميذ الذي لم يحضر نفسه أمام معادلة في امتحان حاسم. مشكلتنا أننا نغيّب دائما المساءلات المصيرية بتركيزنا على ما هو تافه وعارض، لهذا أعتقد أن حوار الحضارات عندنا وهم لأنه لا يتحاور الطرشان وفاقد الشيء لا يعطيه! وصراع الحضارات عندنا كذلك وهم لأن الكفة غير متكافئة.. لا صراع ولا حوار هذا ما أعتقد لأنه الواقع وكلما أنكرنا الواقع مددنا في صلاحية تأخرنا، أهم شئ بالنسبة لنا هو ألا تخدعنا الكلمات قبل رؤية الواقع...


كونك أستاذا للأدب؛ ربما لقد بقي في الجزائر ممارسة واحدة ثقافية واحدة على الأقل على قيد الحياة، رغم كونها ما زالت مرتبطة بالغرب فما السبب في نظرك ؟ 
كغيره من الأشكال الثقافية التعبيرية يعد الأدب أمارة على تخلف ثقافي أم ازدهاره، والغريب أن القيمة الحقيقية للأدب التي لا يؤبه بها في بلادنا تكمن في صناعة المخيال جدليا، فالأدب نتاج الواقع، يعكسه نسبيا من جهة، ومن جهة أخرى فهو يعيد توزيع الواقع وإنتاجه من جديد نسبيا كذلك، فربط الأدب بالمخيال أظن أنه سيحل العقدة التي بيننا وبينه، لأننا للأسف لاتطال مشكلة احتقار الأدب في بلادنا البوبيلاس فقط بل تمس كذلك بعض المثقفين الذين لم يعرفوا بعد قيمة الرمزي والأسطوري في حياة الشعوب.


أخيرا إنه لمن العيوب الكبيرة و(عورات المفكرين) أن يصنع المثقف حول نفسه سياجا يحد من تواصله مع الآخر سواء الجمهور أو أنداده في الأيديولوجيا من المثقفين، ألا يحد هذا من فاعلية المفكر وتطوره ؟ 
هذا السؤال مهم جدا، لأنه يعكس مرضا من أمراض الثقافة، وهو صفرية التواصل الاجتماعي والثقافي عند مثقفينا، لم يفهم مثقفونا بأن الانخراط في معمعة المثقفين باختلاف رؤاهم وانطلاقاتهم يساهم في بلورة وتفعيل أفكارهم، فالحوار خلق لفضاء المد والجزر الثقافي، يساعد كثيرا على دفع عجلة الثقافة المتصدئة.. وهذا ما سيساعد على تجاوز خطورة البوبيلاس، أعتقد بأن المثقفين باختلاف مشاربهم لو استطاعوا إنشاء طبقة متميزة وذكية، ذات هيئة اجتماعية منسجمة، تحمل سلطتها الرمزية كما يثبت التاريخ لأمكننا بالفعل إنقاذ الواقع الثقافي الذي أصبح هلاميا منعدم المعالم، وفي هذه اللحظة بالذات يمكن الكلام عن صراع فكري بأتم معنى الكلمة، قائم على أخلاقية الحوار التي تعني النقد فوق الجميع والمصلحة العامة من المقاصد الراشدة. 




التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات