إشكالية اللفظ و المعنى من خلال نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني د. زهير بختي دحمور

شارك:

إشكالية اللفظ و المعنى من خلال نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني
د. زهير بختي دحمور

المصدر: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني/ د. زهير بختي دحمور

عولجت مسألة اللفظ والمعنى في بدايتها من خلال البحث عن جواب الاشكالية القائلة:
أيهما أسبق؛ اللفظ أم المعنى؟
وهي إلى حد ما تبحث في الاشكالية الفلسفية القائلة:
أيهما أسبق؛ اللغة أم الفكر؟
وأيهما يصنع الاخر؟

وهي اشكالية تأخذنا في عراقتها إلى الفلاسفة اليونانيين، ولكون هذه العلاقة جدلية لا تصل بنا إلى حل للغزهما جاء سؤال اللفظ والمعنى يطرح نفسه، باعتبار الإشكالية الأولى تصل بنا إلى حلقة مفرغة إذا اعتبرنا أن اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أفكارهم، وهذا ما يصور لنا مدى تداخل اللغة والفكر، وبهذا فعلماء الكلام  المسلمون وُفِقوا بدرجة كبيرة في إعادة صياغة الإشكالية والمصطلح.
إن المعنى هو الصورة الذهنية المجردة عن الألفاظ، في حين أن الألفاظ هي التسلسل الصوتي الذي يمكن وضعه على أي معنى من المعاني، ومن هنا كان بالإمكان ان نفصل شيئين تركيبيين عن بعضهما تتكوّن منهما الكلمة.
كان الباقلاني في معرض قوله عن الإعجاز يقول: "إنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه، وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له كقول الشعر، ورصف الخطاب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق يسلك ووجه يقصد وسلم يرتقى فيه"[1].
يقصد الباقلاني هنا أن التسجيع والصناعة اللفظية إنما هي في الألفاظ، وهذا الأمر  يكتسبه الإنسان  من خلال الدربة والتعلم، ويبرر أن قضية الإعجاز خارجة عن سلطة اللفظ، لأن سلطة اللفظ إنما هي للإنسان، وهذا ما يصنع للإنسان قصوره في مجاراة القرآن الكريم؛ فهو إذ يحاول إثبات القرآن لله عز وجل يحاول إفهامنا أن مشاهير العرب اشتهروا بالفصاحة والغرابة والتصرف البديع، ومع هذا فالحقيقة أن الرجل فيهم إنما كان يشتهر بكلمات معدودة قالها وألفاظ قليلة، وكانت تنسب إلى الشاعر قصائد محصورة يجمع بينها اختلال واختلاف وتكلف كلما طال الكلام فيها، في حين أن هذه الملاحظة لا نجدها إذا تأملنا القرآن.
لقد كان القرآن الكريم على طوله وكثرته متناسبا ومتناسقا، وعلى هذا المبدأ جاء التحدي الإلهي في قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله"[2]، وقوله عز وجل: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"[3]، وهذا دليل على أن كلام الآدمي إذا امتد وطال وقع عليه التفاوت والاختلاف[4].
إن الباقلاني إذ تكلم عن النظم وعلاقته باللفظ تظهر عليه معالم التأثر بالمعتزلة والجاحظ حين تكلم عن المعاني المطروحة في الطريق حيث يعرفها العجمي والعربي[5]، بينما الجرجاني فقد رأى في رأي الجاحظ طعنا في إعجاز القرآن.
إن ما نراه هو أن الجاحظ-إلى حد ما مع الباقلاني- قد تكلما في سياق صناعة الشعر، وهو ما عبر عنه عبد الرحمن بن خلدون فيما بعد بـالملكة، وهي تلك القوانين الذهنية التي يجردها العقل وتبنى عليها بقية أحكام اللغة و يمكن من خلالها أن يصنع المتكلم كلاما.
يقول ابن خلدون: "فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر؛ إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجريه على لسانه حتى تستقر له الملكة "[6]، وهذا الرأي واقعي إلى حد كبير، تبناه العديد من الفلاسفة في مناقشاتهم لقضية قدرة العقل على التجريد منذ أن ظهرت إشكالية الوجود والجوهر وعلاقة الأعراض بهما، وقد كان لهذا المبحث حظ كبير من طرف المتكلمين المسلمين، و خاصة الأشاعرة و المعتزلة منهم.
في محاولة لكسر مركزية اللفظ نجد ابن طباطبا العلوي يحاول البرهنة على أهمية المعنى، وينظر إليها من زاوية صناعة الشعر فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة؛ فحصَ المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس القول فيه، فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من معاني... فإذا كملت له المعاني وكثرت الأبيات وفّق بينها بأبيات تكون نظاما لها وسلكا جامعا لما تشتت منها"[7]، ومن الملاحظ جليا اتفاق عبد القادر ناظم مع هذا الرأي مع أنه رأي لا يقول به شاعر إطلاقا، ولا يغامر بسمعته الشعرية من أجل تبنيه؛ لأن قضية الشعر عند الشاعر تشبه إلى حد كبير جدا المتكلم بلغة أجنبية يجيدها، فهو من المستحيل بمكان إذا سألته  عن كيفية  تكلمه أن يقول بأنه يفكر بلغته الأصلية ثم يترجم كلامه إلى اللغة الأجنبية ليتكلم بلسان أجنبي؛ وبالتالي فابن طباطبا أساء الاستدلال لهدم مركزية اللفظ؛ لأن شرحه لهذه القضية هو أبعد ما يكون عن تقصيد القصيد.
شكّل مجيء عبد القاهر الجرجاني منعرجا في مسار دراسة البلاغة، ولا نغامر إن قسمناها إلى (بلاغة ما قبل الجرجاني) و(بلاغة ما بعد الجرجاني) نظرا لما أضافه عبد القاهر إلى الدراسات القرآنية والعربية، مع أن كتابه لم يكن مفهرسا فهرسة تليق بما يحتويه، إلا أن لعبد القاهر عذره في ذلك نظرا لسرعة تأليفه في زمان يظهر سخط الإمام عليه من بداية تسويد كتاب (دلائل الإعجاز)؛ فهو يشتكي من زمان تحال فيه الأمور عن جهاتها، وتقلب فيه الأخلاق، ولا يكون للعلم والخير فيه مكان[8].
على رغم ما سبق فإن الجرجاني لا يدعي وحييّة ما جاء به، ولكن يقرّ بمن سبقه في مسألة النظم فقد قال: "وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم، وتفخيم قدره، والتنويه بذكره، وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هولم يستقم له ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ، وبتّهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال"[9]، وكان يقر بمجيء مفهوم النظم على مصطلحات أخرى عديدة كالنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، اتفق فيها البلاغيون على وجوب عليّة تقتضي التحام لفظ معين مع آخر بالضرورة، و فساد الكلام باستبعاد هذا الشرط[10].
ومع أن عبد القاهر صرح في كتابه بأنه قد نهل مما سبقوه، إلا أنه لم يصرح بأخذه من أرسطو على الرغم من أن الفكر الأرسطي كان سائدا وبقوة في الحقبة التي عاش فيها الجرجاني، وكان حضور أرسطو جليا إما بدعم آرائه أو نقضا لها، وقد أحصى عباس ارحيلة جملة ممن رأوا تأثر عبد القاهر بأرسطو وشارحيه كالفرابي وابن سينا[11]، وهذا أمر غير مستبعد، وهو شيء طبيعي جدا في علاقة الأمم ببعضها بحكم المثاقفة، إلا أن هذا لا يمنع الجرجاني من أن يجعل لنفسه بصمة خاصة في علم البلاغة وعلم الكلام وفلسفة اللغة، و لشكري محمد عياد مقارنة دقيقة حول المحاكاة بين أرسطو و عبد القاهر يقول: "قد نقل فكرة المحاكاة إلى النقد العربي؛ إذ رد روعة الشعر إلى براعة التصوير، والفرق الهام بين محاكاة عبد القاهر ومحاكاة أرسطو أن عبد القاهر يقرن التصوير بالقدرة على تحسين القبيح وتقبيح الحسن وهذه فكرة غريبة عن المحاكاة الأرسطية : فالمحاكاة عند أرسطو... تجسم الفضيلة أوالرذيلة، والحسن أو القبح ولا تقلب أحدهما إلى الآخر"[12].
من أولى القضايا التي تطرق إليها عبد القاهر بغية الانقلاب على سلطة اللفظ هي مناقشته لمفهوم الفصاحة والبلاغة، فقد اشتهر بين الناس على أن الفصاحة متعلقة باللفظ وأنه "لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي، وتعديل مزاج الحروف، حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان، كالذي أنشده الجاحظ من قول الشاعر:

وقبرُ حربٍ بمكانٍ قَفْرٍ     وليس قربَ قبر حرب قبرُ[13]

فبهذا رأى الجرجاني أنه قد جرى هناك خطأ في فهم الفصاحة، وهو الخلط بين ما هو وصف للشيء في نفسه، وبين ما هو وصف له من أجل أمر عرض في معناه، والفصاحة إنما تجنب للفظ من خلال إدراك لطائف بالفهم بعد أن يسلم من اللحن في الإعراب والخطأ في الألفاظ، ولا علاقة لهذا الأمر بالنطق[14]، وما عبر الناس عن فصاحة الألفاظ إلا باعتبار مدى ملاءمة معنى اللفظة لمعاني جاراتها "وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها"[15].
من هنا يوضح الجرجاني تلك العلاقة العِلِيَّة التي تفرضها الألفاظ على بعضها، وهذا هو نقطة التحول التي يظهر فيها التحام اللفظ بالمعنى؛ فاللفظ لا يكتسب وجوده إلا من خلال الجملة في علاقة تجاورية سببية.
إن هذه العلاقة تصنع بالضرورة معادلة تقول: إن "ترتيبَ الألفاظِ النحويَ أو اللغويَ إنما يجيء تاليا لترتيب المعنى في الذهن، وكلما كان ترتيب الألفاظ محكما ودقيقا، تربطه علاقات منطقية قوية، كان ذلك أدق وأرق من إبراز المعاني المعقولة وتصويرها وإخراجها في ثوب قشيب من الأسلوب، العلاقات النحوية إذن هي المجاز الضروري إلى ما تشتمل عليه التراكيب من أسرار فنية، ومع تغيير بناء التراكيب تتغير القيمة الفنية التي تحتويها وتدل عليها"[16].
على هذا الأساس يكسر الجرجاني ثنائية اللفظ والمعنى، والتي هي في الحقيقة تمثل مركزية اللفظ، ويبني نظريته على علاقة أخرى ذات ماهية جدلية يحكمها قانون العلة والمجاورة، وتبرز من خلالها علاقة الكلمات في ترتيبها داخل الجملة والتركيب، حيث يتناسب فيها طرديا حسنُ النظم والسبك والاختيار مع روعة الأسلوب وجلاء الفكرة، ولا قيمة للألفاظ ولا تفاضل بينها ما دامت مجردة عن الجملة حتى تدخل في تركيب يحييها ويعطيها فاعليتها.
ولهذا يعرف الجرجاني النظم بقوله: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تجل بشيء منها، وذلك أن لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه[17].




[1] - الباقلاني، إعجاز القرآن، ص:111.
[2] سورة الزمر، الآية: 23.
[3] سورة النساء، الآية: 82.
[4] - ينظر: الباقلاني، إعجاز القرآن، ص:36.
[5] - للتوسع في مناقشة الجرجاني لرأي الجاحظ والمعتزلة، ينظر: الجرجاني، دلائل الإعجاز، تح.محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط:03، 1992 ص:255، 393.
[6] -عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط: الأخيرة،2000، ص:358.
[7] -  عبد الجليل ناظم، البلاغة والسلطة في المغرب، ص 121.
[8] - ينظر: الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:33-34.
[9] - المصدر نفسه ص:80
[10] - ينظر المصدر نفسه ص:49.
[11] - ينظر: عباس ارحيلة، الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين، إلى حدود القن الثامن الهجري، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط:01، 1999، ص: 504-510.
[12] - المرجع نفسه، ص:509.
[13] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:57.
[14] - ينظر: ثناء نجاتي محمود عياش، الجهود البلاغية للتفتازاني في كتابه المطول، دار وائل للنشر، عمان، ط:01، 2006، ص:71.
[15] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:44-45.
[16] - فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث النقدي: دراسة نصية نقدية تحليلية مقارنة- النقد والناقد، منفذ المعارف، الإسكندرية، د.ط، د.ت، ص:202.
[17]  - عبد القاهر الجرجاني, دلائل الاعجاز , ص:81.

مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور
للاطلاع على الكتاب انقر

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات