جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم د. زهير بختي دحمور

شارك:
جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم
د. زهير بختي دحمور
إن المذهب العقدي الذي كان يتمذهب به عبد القاهر الجرجاني أعطاه شجاعة في البحث البلاغي في القرآن الكريم لا نجدها في المدرسة التيمية إن صح التعبير وخاصة في بعض الحنابلة، وذلك أن الحنابلة -في كثير من قضايا التفسير- لايؤولون، وهم يحاولون إيجاد أي أثر يبعدهم قدر الإمكان عن تأويل  القرآن الكريم والنظر إليه عقليا، وهذا ما جعل بعض مخالفيهم من أهل السنة أنفسهم يصفونهم بالحشوية ويعيبون عليهم كونهم ظاهريين.
فمبدأ ظاهرية النص الذي اتخذه الحنابلة أساسا لهم لم يعطهم الشجاعة في البحث حول التأويل واعتبروا أن تأويل النص يأخذه إلى غير ما أريد به؛ فالصفات التي أوّلَها الأشاعرة إنما هي عند مدرسة الحنابلة أو -لنقل (مدرسة ابن تيمية) بالذات- صفات ثابتة تقتضيها معاني الألفاظ المعروفة في لغة العرب على وضعها الظاهر منها، وهذا ما اعتبره الأشاعرة وغيرهم تجسيما وتشبيها، وهو ما يتنافى مع قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[1].
إن إمعان العقل في لغة العرب واعتبارها معيارا للتفسير بحجة أن القرآن جاء على لسانهم متحديا بلاغتهم وصناعتهم هو الذي كان حافزا في الوقت نفسه لعبد القاهر الجرجاني -بكونه أشعريا- لأنْ يبحث في بلاغة القرآن الكريم ويتخذ من آراء المدرسة الأشعرية موردا ومنهاجا في قراءته وتنظيره.
رأى الجرجاني أن للنظم ميكانيزمات بلاغية تجعل من الكلام كلاما بليغا، ومن جملة المواضيع التي فصلت بين الحنابلة والأشاعرة القول في المجاز، فقد قال ابن فورك عن الأشعري "يقول فيه: إن استعمال اللفظ في القول بأنه مجاز مجاز، وذلك أن أصل معنى المجاز من التجوز، ومن قولهم: جزت المكان إذا عبرته. قال: ذلك إذا استعمل في القول فتوسع في العبارة وليس حقيقة"[2].
كان ربط النحو بالنظم بمثابة إخراج النحو من شكليته وجفافه والخروج به من خلافات الإعراب والبناء، وهذا ما بعث فيه دفء اللذة والسمو بالذوق[3].
في الوقت ذاته حوَّل النظم البلاغة من مبحث الذوق إلى الرؤية العقلية للتراكيب البلاغية.
يقول فتحي أحمد عامر في هذا الصدد: "فتح عبد القاهر بذلك باب التذوق البلاغي على مصراعيه للدارسين والعلماء من معاصريه، والمتأخرين عنه، وظل رائد مدرسة الإعجاز البياني التي حددت معالم الفكرة المعجزة التي هي النظم، والخروج بعلم النحو إلى نمط خير مما كان عليه، وأصبح التعريف والتنكير والتقديم والتأخير والإفراد والتثنية والجمع وغير ذلك من مسائل النحو لدقائق وأسرار يتأملها العقل البشري ويتلذذ بها التفكير الإنساني في آيات القرآن"[4].
من ناحية أخرى فإن الجرجاني تجاوز النقد التقليدي الذي يعطي أحكاما انطباعية منبنية في أصلها على مقارنة الأبيات بأبيات، وإعطاء الحكم على القصائد من خلال بيت واحد قد يصير صاحبه أشعر العرب عند أحدهم أو أشعر الجن والإنس عند آخر.
لقد ساعدت العقلانية الأشعرية في الحكم على القضايا  فتح مجال عريض لتطوير النقد، وعليه فنظرية النظم -الجرجانية بالخصوص- هي محاولة في علمنة الأدب والبلاغة، وهي بحث في محاولة إتاحة الفن للجميع وتجاوز فكرة ما نعرفه اليوم بالموهبة أو ما عرفه الأقدمون بشيطان الشعر، وهذا يعتبر فكرة سباقة إلى البحث في الأسلوب لا من ناحية الانفراد باللفظ فقط أو بالأسلوب، ولكنه نظر إلى الأسلوب من حيث كونه جملة تراكيب لغوية ذات علاقة وطيدة بالسياق والنسق.
هذه الفكرة شكلانية إلى حد ما فـمن "الملاحظ أن كلمة أسلوب تعني في النقد الغربي الحديث الجانب الشكلي... أي له عناية خاصة بالشكل حين يبدع وينشئ، أو حين يدرس وينقد، ومن هنا فالشكلي لا يعني أثناء الإنشاء أو النقد إلا بالشكل دون الاهتمام بالمضامين الاجتماعية والقيم الأخلاقية، بهذا يلتقي هذا الاتجاه النقدي مع مذهب الفن للفن الذي يزعم أصحابه أن ليس للأدب هدف أو غاية وإنما غايته في نفسه  ولنفسه"[5]. وكذلك هي نظرية النظم، فهي نظرية في الشعرية والأدبية بامتياز، ربما استفادت -بعض الشيء- من أرسطو إلا أن الجرجاني عرف كيف يستلهم أرسطو ويبعث النظرية بما يتوافق مع العربية، ويطلق النظرية البلاغية كنظرية فلسفية عالمية يمكن الاستفادة منها في شتى مجالات المعرفة.





[1] - سورة: الشورى، الآية: 11.
[2] - محمد بن الحسن بن فورك، مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط:01، 2005، ص:24.
[3] - فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث النقدي، ص:195.
[4] - المرجع نفسه، ص:195.
[5] - لخضر العرابي، المدارس النقدية المعاصرة، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، د.ط، 2007، ص: 63.


مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور
للاطلاع على الكتاب انقر

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات