جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم على مستوى الفن
د. زهير بختي دحمور
المصدر: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني/ د. زهير بختي دحمور
يقسم كانط الفنون الجميلة إلى ثلاثة أنواع: فن القول، وفن لعبة الإحساسات (بوصفها انطباعات خارجية للحواس)، وفن التشكيل[1]، وهو يجعل من أشكال في مكان تعبيرا عن الأفكار[2]، ويقول عنه: "أما كيف يمكن أن نضم الفن التشكيلي إلى الإيماءات في اللغة (بحسب التمثيل)، فله ما يبرره في أن روح الفنان هي التي تهب عبر هذه الأشكال تعبيرا جسمانيا لما فكر فيه... وهذه لعبة مألوفة جدا يلعبها خيالنا حينما يضفي على الأشياء الجامدة كل حسب شكله روحا يتكلم إلينا بواسطته"[3]
من المشهور والواضح جدا أن الفن التشكيلي استفاد كثيرا من النظريات النقدية والفلسفية؛ نظرا لما تمتاز به النظرية الفلسفية من شمولية تمكنها من إعطاء مقاييس ومفاهيم قابلة للتعميم على مجالات المعرفة المتعددة، وكذلك يمكن قياس هذا على نظرية النظم إذا اعتبرناها تتقاطع مع الفن التشكيلي باعتبار أن كلا ًّمن الرسم والكلام لغة تواصلية، فإذا صح هذا الاعتبار فإنه -وبالضرورة- يمكن قياس الآليات الممكنة من توسيع النظرية الجرجانية على الفن التشكيلي .
صحيح أن نظرية النظم ولدت من رحم تفسير القرآن الكريم، ولكن الجرجاني لم ينظر إليها باعتبارها تخص فقط الدراسات القرآنية بل إنه حاول أن يكون القرآن الكريم كآلية استدلال على تنظيره للبلاغة وأوجه إعجاز اللغة العربية، فهو بذلك يجعل نظرية النظم على مستويات ثلاثة:
المستوى الأول: اعتبر فيه النظم آلية تلقٍ (قراءة) تعتمد على فك رموز النظم، وتأويل الرسالة، ومحاولة فهمها على الوجه الأقرب وهو بذلك عمل تفسيري من طرف المرسَل اليه.
المستوى الثاني: اعتبر فيها النظم آلية إرسال (إبداع) يعتمد عليه في صنع الرسالة لإيصال معنى معين يتغير حسب ما يراد له وهو بالتالي عمل إبداعي من طرف المرسِل، فالمرسل يختار آلية النظم الملائمة لمعنى معين يريد إيصاله.
المستوى الثالث : اُعتُبِر فيه النظم قواعد تجب مراعاتها، ولا يمكن الخروج عنها، وأن الإخلال بقواعد النظم هو إخلال باللغة ذاتها؛ فقد يحيل بلا شك إلى فهم سطحي للرسالة، وبهذا فالنظم آلية من آليات اللغة التي يتوجب مراعاتها في إنشاء (الرسالة).
إذن فالمستويات الثلاثة تنطبق على طبيعة الفنون لكونها تجمع المستويات الثلاث، كما يمكن قياس تعريف الجرجاني على الفن التشكيلي حين قال: "إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها"[4]، وهنا يمكن اعتبار الألفاظ بأنها هي الصور المفردة للخطوط والألوان التي لا تعطي دلالتها الواقعية والرمزية إلا حين تأليفها مع بعضها، فلا معنى لوجود خطوط مستقيمة أو منحنية وألوان مبعثرة غير متناسقة مالم تشكل مع بعضها أبعادا وأجساما؛ فهذا الالتحام بين هذه العناصر هو ما يعطي اللوحة أو الرسمة قيمتها وفنيتها، ولهذا يقول الجرجاني عن اللغة الكلامية: "فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عدا كيف جاء واتفق، وأبطلت نَضَدَه ونظامه الذي عليه بني وفيه أفرغ المعنى وأُجرِي، وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد... أخرجته من جمال البيان الى مجال الهذيان."[5]، وقد يطرح الإشكال:
إنه إذا تآلفت الأشكال والألوان والعناصر المكونة للصورة بشكل منطقي على ما تقتضيه نظرية النظم، فإنها بالضرورة تتولد لدينا صورة واقعية تفتقر إلى المعطيات الفنية، بل إنها تفترق عما نعرفه من الفنيّات الرمزية وبالتالي فالنظم يصنع أشكالا لا فنا أو بالمفهوم اللغوي أنه يصنع كلاما عاديا لا لغة راقية بليغة.
جدير بالذكر أن للمجاز مكانة لا يستهان بها عند الجرجاني، والتأويل كما هو معروف هو الآلية التي يعتمدها الناقد في تفسيره في حين أنه وسيلة إرسالية بالنسبة للمرسل، لها وظيفة مشابهة في الفن التشكيلي بين الفنان والمتلقي؛ فالتعاطي مع الصورة الفنية هو في حد ذاته تأويل للعلامات التي تحويها اللغة أو المشهد و"يمكن التمييز في دلالة عناصرها بين مستويين: دلالة مرئية عادية ودلالة لا مرئية مجازية رمزية وتأويلية، لأن الفنان لا يستخدم الأشياء في إبداعاته الفنية بمعناها العادي، وإنما يركب منها استعارات ومجازات للتعبير الرمزي عن مشاعره ومنظوره الخاص"[6].
وكما أن المجاز في نظرية النظم له قيمته، فإنه أولى بذلك في الفن، لكون اللغة العادية تقصر أمام إرادة التعبير الفني، فقد سبق أن قيل "عندما تتسع الرؤيا تضيق العبارة" لأنه انتقال من الحالة الانفعالية إلى الحالة التأملية، وهذا جوهر رمزية الفن التي تتخطى حدود الزمان والمكان، وقد "لوحظ كثيرا أن الفنانين العاديين يمدوننا بدقائق عن حياتهم الخاصة وحياة المجتمع في زمانهم أكثرمن عظماء الفنانين الذين يتجاوزون حدود عصرهم ومجتمعهم وأنفسهم من حيث هم يشاركون في الحياة الواقعية، ومن ثم كذلك ينشأ هذا النوع من الضيق الذي تحدثه فينا آثار تفيض ولا شك بالعاطفة، لكنها خالية من النهوض بالعاطفة إلى الصورة الحدسية المحضة التي هي أخص خصائص الفن"[7].
إن ما يعبر عنه شاعر أو أديب باللغة يعبر عنه فنان آخر بفنه، وما نظرية النظم إلا وسيلة عبور هذه الأجناس إلى المتلقي وآلية لتفسير الإبداع، ووصول الرسالة مبني في الأساس على تكافؤ طرفيها المرسل والمرسل إليه أو إن شئنا التعبير بين الفنان والمتلقي.
حقيقة إننا لا نستعمل الكثير من مفاهيم النظم، ولكن -وكما هو معروف- فالنظرية الفلسفية لا تشترط كل محاورها وعناصرها من أجل تبنيها في مجال معرفي معين، إذ يمكن أخذ المعالم الكبرى أو العامة ليتبنى فن من الفنون خلفية فلسفية.
[1] - إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، ترجمة: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط:01، 2005، ص:250.
[2] - ينظر: المصدر نفسه، ص:251.
[3] - ينظر: المصدر نفسه، ص:254.
[4] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 539.
[5] - عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، جدة، ط:01، 1991، ص:04-05.
[6] - شوقي المصطفي، المجاز والحجاج في درس الفلسفة بين الكلمة والصورة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط:01، 2005، ص: 95.
[7] - بندتو كروتشه، فلسفة الفن، ترجمة: سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، د.ط، د.ت، ص: 149.
مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور