جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم على مستوى التحليل النفسي د. زهير بختي دحمور

شارك:

جديد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم على مستوى التحليل النفسي
د. زهير بختي دحمور

المصدر: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني/ د. زهير بختي دحمور

لا شك أن نظرية النظم من النظريات المهمة في التحليل النفسي للنصوص، وهذا للمساهمة الجليلة لهذه النظرية في تبيان مدى تعلق نظم الكلام بالحالة النفسية للمتكلم، ومدى مساهمة الانفعلات في صناعة اللغة، فالكلم تقتضي في نظمه آثار المعاني وترتيبها على حسب ترتيب المعني في النفس لأن تعلق لفظ بلفظ من أجل صنع معنى معين هو في الحقيقة اختيار نفساني  لتلك الألفاظ التى تبرز صورة معينة يمكن فيما بعد قراءتها على سبيل الحقيقة أو المجاز على اعتبار محاولة كشف الشعور أو اللاشعور.
لا نقول أن عبد القاهر سبق إلى التحليل النفسي للنصوص، وهذا لسبب بسيط جدا هو أنه لم يكن طبيبا نفسانيا ولا ناقدا سياقيا، ولكن باعتبار نظرية النظم نظرية إبداع ونظرية قراءة وتلقٍ في آن واحد - وباعتبارها تفسر معاني شعرية - فإنها تقر بمدى تعلق النظم الكلامي بالخلجات النفسية التي تصنع من الشاعر شاعرا.
الجديد الذي نلمحه في اتخاذ نظرية  النظم كمنهج تحليلي نفسي هو إسهامه في كسر مركزية النص، ومحاولة إعطاء نتائج أكثر دقة باعتماد الجملة دون إهمال النص ونفيه، لأن اتخاذ فكرة تحليل النص دون اعتبار للألفاظ والجمل قاصر عن الكشف عن الكثير من النتائج اللاشعورية التي هي من أولويات علم النفس، وهذه النتائج اللاشعورية لا يمكن أن تتأتى خارج نظم  الجملة، ولو تتبعنا جملة من محاولات النقد النفسي للأعمال الأدبية سنلاحظ -بلا شك- إهمال الجملة؛ لأن النصوص كانت تؤخذ كخطاب عام لا يهتم بالتفاصيل المكونة لهذه النصوص، وهذا نتيجة خلفية معرفية لدى الناقد العربي وخاصة المحدث والمعاصر؛ فهو يرى من خلالها أن القصيدة هي كل متكامل لا يمكن فصل أجزائها عن بعضها البعض، وهذه النظرة تولد اهمال كثير من الشيفرات التي هي من جوهر التحليل النفسي ولا نكتشفها إلا من خلال: التقديم والتأخير، والفصل والوصل، والمجاز وطرائق التشبيه والتمثيل وغير لك.
لا ننسى أن جوهر الأدب محاكاة وانعاس تصنعها حالات نفسية معينة في قالب لغوي معين عبر تسلسل زمن قصير أو طويل، ولم تكن أبدا هذه النصوص وليدة لحظة زمنية معينة كما هو الوحي، ولهذا فهي أولى بأن تُعطَى للجملة أهميتها في التحليل؛ لأن نظرية النظم تعطي أهمية للجزء كما الكل، فالكل يفسر الجزء والجزء يفسر الكل ويخدمه، وقد أعجب التفتازاني في مطوله بشرح الجرجاني لبيت العباس بن الأحنف:
سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا     وتسكب عيناي الدموعَ لتجمدا [1]
ورأى أن لكثير من النقاد كلام فاسد في شرحه[2]، والمعنى: "أني اليوم أطيب نفسا بالبعد والفراق، وأوطن نفسي على مقاساة الأحزان والأشواق، وأحتمل لأجلها حزنا يفيض الدموع من عيني لأتتسبب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة لا تزول، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومع كل عسر يسر"[3].
إذن لا مجال للمقارنة بين تحليل نفسي يعتمد الفهم الكلي العام للقصيدة، وبين تحليل نفسي لشرح الجرجاني لبيت العباس بن الأحنف على منهج النظم، "وواضح من منهج عبد القاهر في تحليل الأبيات أن مرد هذه الخصائص حتى ولو كانت حالات شعرية أو نفسية إلى مدى استطاعة  الأثر الفني في الانتفاع بمختلف القوى التي تستطيع بها الألفاظ مجتمعة أن تبعث هذا الاحساس أو ذاك"[4].
إن كون نظرية النظم نظرية إبداع ونظرية قراءة معا يجعلنا نصل إلى المبدع عبر إبداعه من خلال تحليل نصوصه الأدبية، وفي الآن ذاته هي آلية يستخدمها المبدع لإنتاج النصوص وتنقيحها ونقدها، وهي لا شعوريا تصنع قارئا ضمنيا عبقريا.




[1] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 57.
[2]- ينظر: ثناء نجاتي محمود عياش، الجهود البلاغية للتفتازاني في كتابه المطول، ص:69.
[3]- المرجع نفسه، ص:69، وللجرجاني في ذلك شرح مطول ودقيق يمكن الرجوع إليه. ينظر: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 268-271.
[4] - محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، د.ط، 1979، ص:328.


مقتبس من كتاب: نظرية النظم قراءة في مشروع عبد القاهر الجرجاني للكاتب: د. زهير بختي دحمور
للاطلاع على الكتاب انقر

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات