كهننة الموت و توظيفه المكثف في نصوص الشاعر الأب يوسف سعيد

شارك:


كهننة الموت و توظيفه المكثف في نصوص الشاعر الأب يوسف سعيد

عدنان أبو أندلس


الموت لغة معناه – ضد الحياة – في تقابل حقيقي للمفردة المضادة لها- أما إصطلاحا فهونزع الروح وتعطيل أعضاء الجسم وظائفياً- ومن مسمياته المتنوعة منها- الموت الأحمر- الأصفر- الأبيض- الأسود – وغيرها في تطابق مع بقية الألوان المصطبغة بلغة الموت. ما من أحدٍ منا يذكر أمامه كلمة الموت,إلا ويستذكر مفرداتها القاسية نطقاً وسمعاً كالحزن - المصيبة – الفراق – اليأس- الوحشة –الخوف- تلك المعاني تحيط بذهنية المستمع حال سماعه ذكر الموت ,إضافة لمسميات أخرى أكثر رعباً وبتصريح مفزع منها – المنون- الحتف –الردى –الهلاك –الوفاة -المنية.
الموت ليس بمخيف على الإطلاق , لأننا نعرف النهاية الحتمية لنا, كونه حقيقة أزلية نعايشها كل يوم , لكن المخيف فيه هو أنك ستودع هذه الدنيا وحدك دونما أنيس , هذا ما أتفق عليه البشر قاطبة , هو أن الموت حقيقة واقعة كل لحظة وكما وظفها الأب في أكثر نصوصه والتي على الأغلب يستهل قصائده بـالموت منها قصيدة - المياه - والتي يقول مستهلها : ليس لليل نوارس \ ليس لليل شمعة بيضاء \ الليل موت \ الليل يلبس ذاته , فالبياض روح وحياة , والسواد جماد وموت. 
لكن ما سر ذلك في تكهنه الصريح والمعلن , يمكن مرد الأسباب هو كونه قد اشتغل طويلاً في علم الكهنوت لهذا نراه يسمو نحو عالم السمو والإرتقاء الروحي- فالروح سر داخلي حي كأنه نور لايمكن الإمساك به , قادم من المصدر وينير ما وراء الحياة, نور لايعلن عن نفسه بصورة مباشرة , لكنه يتجلى في أفعالنا دون توقف , إن رؤى العرفان متجسدة في خصوصية عمله لنزوعه إلى الدعوة الربانية الدينية كما هو شعوره في الدخول إلى الكنيسة كتقديم خدمة عامة ضمن إطار ديني , حيث إتحدت إشراقاته وتجلياته في نزعته الكهنوتية إلى حالة عرفانية , لذا سمعنا عنه بأنه إعتكف أربعين يوماً ،كتب عن الموت , محاولاً على حد قوله : تجاوز الموت باللغة –لأن الموت هو الحقيقة التي لابد من عبورها رغم أنه يعلم في قرارة نفسه – ن الموت لايمكن مواجهته ولايمكن تجاوزه حتى ذكره الكاتب الشهير – برنادشو- (عندما يكون إسماً محيراً أبحث عن الحقيقة الكامنة وراءه)
كل هذا وهو في تحولاته وتجلياته الحكيمة وبمخياله اللحظوي بإمتلاء قدّاسه لحناً منغماً بمزاميره الكهنوتية هادئ ومطمئن أبداً لأنه صرح بالموت على عدد انفاسهِ, وله في قصيدة – الإنصهار- الحضور الطاغي للموت : 
الإنصهار:
غداً عيد الموت \ التعبير , والصليب والناقوس \ تمهد لنا طريق العذاب, أن الأشياء الراسخة ذهنياً والماثلة للمشاهدة بتصوره الموت كل لحظة. 
إن الأب يوسف سعيد عمل بوظيفته كاهناً منذ شبابه وحتى آخر عمره, وهو بموقعه هذا إمتلك عقلاً راجحاً وألمعية نادرة , يدٌ كريمة ومزاج سمح ,أولع بالأدب ونظم الشعر في صومعته , عيناه نحو السماء مردداً الوصايا العشر , يتلو تعاويذ على رؤوس مثقلة بالهم اليومي , قضى أيامه في التعلم والتدبير والتقديس , يصغي ملياً لدقات الناقوس وترديد الساعور , تدرج في الهرم الكهنوتي وأصبح راعياً للكنيسة , إتقن عقائد واسرار تؤخذ في حسبان المعلم المرشد بإطلاعه على مكمن اسرار الكنيسة السبعة , إستلهم من تلاوة القداس مفاهيم الحياة الأخرى فكان له تاج مرصع بمعرفة كاملة بحقيقة باتت تشاغله عن هذه الحياة كل لحظة, لهذا جاءت مسميات قصائده بهذا المنحنى المشترك والمعلن منها بتصريح الموت , وكما يقول في قصيدة – الرجوع من حواس الشخص العجيب.
آه.., دخلت الخاصرة الحارة \ لملمت أسراري \ وخرجت من المدينة \ باحثاً عن مواقع الموت.وإليك عنونة قصائده :
يضحك ثم يموت \ الموت واللغة \مات جان ميرو \ بعد الموت ومثله \ الحائر \ أحزمة الطقس الآتي \المشدود إلى التراب\ الخلاص \الإنصهار \سفر الرؤيا \ الهياكل والخطايا \ زرقة السماء وغيرها الكثير راسخة بعمق فكرة الموت ولا مناص منه , حيث تتوفربشعره السريالية والشطحات الصوفية ضمن نسيج خاص يوحد بينهما بلغة دينية برموزها المثولوجية ولغة الحياة المعاصرة من إستذكار صديق او عزاء محب بدفقات ملموسة في أغلب نصوصه المشعة بعتمة الموت وهذه قصيدة- الخصب- لولا اللغة لإنحبس المطر \ الموت في الهزيع الأخير \ يغني على جذع الموت. لا تكاد تخلو قصيدة من ذكر الموت حتى ولو مجازاً أو إستعارة بديلة مرموزاً, لانه القيّم في الصومعة والمحلق في فضاء الأدب, إن الطقس الكنسي أضفى لمسته العرفانية في عتبة مدوناته الأولى بدءاً من التعميد والمذبح والمحراب والناقوس والصليب الراسخ جمعاً في عمق العقيدة كل حين,لهذا وردت في نصوصه ما يخلتف عن رؤى سابقيه ومجايليه ومعاصريه ومابعدهم من النزوع إلى ادراك الأسرار الربانية كونه قرأ اللاهوت وأستجلى فكرته في طقوس يتجلى منها إشعاع بنور العقيدة. إن لفظة – كاهن – هي وحدها تفي بالغرض وتغنينا عن كل هذا السرد التوضيحي له,إضافة إلى تركيزه بعمق على شفافية الروح وتوقها إلى عوالم العقل مستمداً من تراكم ثقافي وأدبي وروحي, حيث أن الفضاء الديني وبناء القصيدة على اساسيات الرؤى العرفانية وبشطحاتها من مزامير توراتية قد جعلته يسمو إلى فضاءات مفتوحة على أبجديات الكون, لم يقلقه حدث طارىء مهما إشتدت أزمات لاحقة , حتى الموت نفسه والذي وظفه في نصوصه تصريحاً بأسمه وكما يقول: في قصيدة – وجهي الثاني- لِمَ لا أنام ؟ أنغلق كا لملح في حشرجة الموت \ التجارة التي بارت \ حقنت في مفاصلي الدموع \ وله تصريح معلن بقوله: ( لا أنا ولا أنت نموت) أي إذ كنا نعمل بصدق مطلق يرضي الرب ,هذا الكائن السيدوري العجيب لا يتخوف من الموت لانه كمن يثق بنفسه من نتيجة عارف بها مسبقاً, ولم يرتكب معصية سوى نزوعه للخير وتقديمه خدمة بشكل عام. 
إن عوالمه منغمة علوية سحرية يبحر في فضاءات عالية وبعيدة وأبدية , فكانت الطبائع الأربعة الكونية قد وظفها في شعره مثل رباعيته\ الشمس \ الماء \ التراب \الارض\ فالماء أصل الحياة \ الشمس جرم سماوي علوي – الأرض- التراب\ عوالم ارضية في تكوينها يتماثل مع الإنسان – فالموت يطال حتى الكون وذلك بإطفائه , هذا هو سر توظيفه للموت وبشكله المعلن في تكهنه الطاغي بذكره – لذا قال عنه الشاعراللبناني ميخائيل نعيمة ( إنني لم اجد في حياتي كاهناً بهذه الروعة الشعرية العميقة) كذلك الناقد السوري صبري يوسف ( يبني الأب يوسف سعيد قصيدته كمن يترجم مشاعره الدفينة ضمن توهجات حلمية باذخة في التأملات) وإلى هنا نختم مقطعاً يضج من صراحة الموت بعنوان متفرد بصراحة التدوين وهو من قصيدة – مات جان ميرو- في هذا الصباح \ مات جان ميرو...كموت العضلة في فخذ الجبابرة \وحده مات ميرو\ وكما تموت الغابات في سيبيريا.

كركوك- 17-شباط-2014.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات